[ تعيد "جدلية" نشر هذه المادة ضمن ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين تنشره "جدلية" على مدار الأسبوعين القادمين.]
ما هي النكبة؟
تستدعي مفردة النكبة (أو الكارثة) إلى الذاكرة تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948 عن طريق طرد أكثر من نصف سكان فلسطين التاريخية، وتدمير التراث الفلسطيني، والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في الاراضي المحتلة. إن الاجابة الممكنة عن سؤال حول معنى النكبة في الزمن الحاضر يمكن أن نجدها في حوارات الذاكرة الجمعية الفلسطينية، خصوصاً تلك الموجودة في مخيمات اللاجئين الذين تم طردهم خارج حدود فلسطين التاريخية عام 1948. في حوارات الذاكرة الجمعية هذه، لا نجد النكبة كمؤشر واضح على الكارثة التي حاقت بالشعب عام 1948 فقط، ولكنها مؤشر أيضاً على كوارث مستمرة على الشعب كنتيجة لاستمرار احتلال أرض الوطن.
في سوريا، حيث قمت بأبحاث حول ذكريات النكبة مع كل من الجيل الأول والثاني والثالث من اللاجئين الفلسطينيين، وكان بالإمكان تتبع هذه الحوارات إلى وقت اتفاقيات أوسلو عام 1993 على الأقل، حيث قام الناشطون في تلك المجتمعات، وكرد فعل على التهديد الذي مثلته القيادة الفلسطينية لحقهم في العودة، بخلق حوارات جديدة حول الذاكرة قدم من خلالها الناشطون معاني ودلالات مرتبطة بعام 1948، وخصوصا تلك المرتبطة والمؤسسة على القضيتين الأساسيتين للتحرر والعودة.
ومع ذلك، فإن معنى النكبة في حوارات الذاكرة يفترض مسبقا أن أهمية عام 1948 بقيت ثابتة وعالمية منذ وقوع الحدث، وأن هذه المعاني لا تزال مفهومة ومنتشرة بشكل عالمي في زمننا الحاضر. ورغم ذلك، فإن أهمية معنى النكبة بحد ذاته قد تغيرت بشكل جذري منذ تأسيس هذا المفهوم في عام 1948. ولا نقصد هنا أن نقلل من القضايا الرئيسة في التحرر والعودة، والتي تظل مركزية في أي مشروع يحاول إزالة الاحتلال عن فلسطين التاريخية، ولكن بالأحرى، أن نقدم للطرق التي كان التعبير عن المفهوم المحدد للنكبة فيها نتيجة للشروط المادية التاريخية والسياسية التي غيرت الحركة الفلسطينية بشكل خاص، والسياق العربي بشكل عام والذي ظهر بعد عام 1948 بشكل أوسع، ورد فعل الفلسطينيين العاديين، وهم في هذه الحالة اللاجئون في سوريا، على هذه الظروف.
في الوقت الذي يبقى فيه مفهوم النكبة الذي يعتبرها تجسيداً مستمراً للمأساة الفلسطينية التي حدثت ولا زالت تحدث مهماً، والذي تم بكل تأكيد إبرازه بشكل أكبر بسبب الحرب في سوريا، فإن ذكريات النكبة لا تؤكد أو تعيد إنتاج حوارات الذاكرة الجمعية حول فهم ما حدث عام 1948. إن ذكريات أبناء هذا المجتمع الخاصة ورواياتهم الثابتة للذاكرة تعيد تشكيل تلك الحوارات بل وتتحداها، وتمهد للمعاني المتعددة والمتناقضة أحياناً لمفهوم النكبة.
وللإجابة على السؤال حول ما هي النكبة، أو بشكل أكثر تواضعاً لنعقّد إمكانية إعطاء إجابة واحدة، فأنا أختبر الطرق التي تغيرت بموجبها المفاهيم المرتبطة بالنكبة على مدار العقود الستة الماضية، والطرق التي اختارها جيل النكبة في سوريا ليتذكر بها أو لينسى عن طريقها عام 1948 في مواجهة المعاني المختلفة والمتغيرة للنكبة.
***
في آب/أغسطس عام 1948، وحين كانت الحرب على الفلسطينيين لا تزال مشتعلة، كان عالم التاريخ والمفكر القومي المولود في دمشق، قسطنطين زريق (1919-2000)، أول من وصف تطورات الحرب ووصفها بالنكبة في كتابه الصغير، "معنى النكبة." بالنسبة لزريق، كانت الحرب على الفلسطينيين نكبة منذ اللحظة الأولى من ناحية نتائجها الكارثية على مشروع القومية والوحدة العربية، والتحرر والتخلص من الاستعمار، حيث أن فلسطين جزء من الأمة العربية التي كان العرب يحلمون بها. ورغم أن تصور زريق لعام 1948 كنكبة يتضمن بالتأكيد تهجير سكان فلسطين، فإن هذا لم يكن إهتمام زريق الأساس ولكنه كان جزءاً فقط من الأشياء التي جعلت من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين أمراً كارثياً.
لقد كانت هذه هي الأبعاد المنطقية التي تم بموجبها تصور الحرب كنكبة والتعبير عن هذا المعنى، ليس فقط في عام 1948، ولكن أيضا في العقدين اللذين أعقبا الحرب وحين كان المشروع القومي الوحدوي في أوجه. في هذين العقدين، أصبحت النكبة - عند العرب أكثر من الفلسطينيين- مرتبطة بالقطيعة الفعلية مع النظام العربي القديم الذي تركه الاستعمار الفرنسي-البريطاني والذي خلق النكبة في المقام الأول، والوعد بفجر جديد بشرت به الانقلابات العسكرية والايديولوجيات والحركات والتيارات الصاعدة آنذاك.
المعنى العملي لهذا، خصوصاً في ضوء ثورة يوليو 1952 في مصر وبروز جمال عبد الناصر كمنافس قوي على الزعامة الاقليمية، هو أن التفكير في 1948 أصبح متشابكاً مع كل من مشروع التحرر القومي العربي إضافة إلى عملية التأسيس للأنظمة العسكرية الذي شهدته الخمسينات والستينات. وفي هذا السياق، فقد قال جمال عبد الناصر- والذي كان برتبة صاغ في الجيش المصري أثناء حرب 1948- في كتابه المنشور عام 1954، فلسفة الثورة، إن النكبة كانت بالمفهوم السياسي كارثة على المشروع الوحدوي العربي أكثر منها سبباً لقيام ثورة يوليو، ولذلك فهي تعد جزءاً من المجال السياسي للثورة.
وحتى أثناء التنظيم الأولي الفلسطيني إثر عام 1948 – خصوصاً تحت راية جماعات القومية العربية مثل حركة القوميين العرب، وحزب البعث وغيرها- فقد بقيت قضية النكبة قضية عربية، وتم تصورها بهذا المنظور. كان علينا أن ننتظر حتى ظهور حركة فتح ليبدأ الفلسطينيون بتنظيم أنفسهم تحت راية فلسطينية ووضع تصور للنكبة ضمن إطار عمل فلسطيني خالص.
لقد أتاحت حرب حزيران عام 1967، والتي احتلت فيها إسرائيل أجزاء من مصر بضمنها قطاع غزة والجولان السورية والضفة الغربية لنهر الأردن، تحولا آخر في مفهوم النكبة. وفي البدء، وفي السنوات الأولى التي أعقبت حرب حزيران، ظهرت أعمال نقدية تعاملت مع الهزيمة الجديدة على أنها كارثة جديدة تمثل تواصلا عضويا للنكبة الأولى وتحمل نفس الجذور المسببة لها. وبهذه الطريقة، تعامل التفكير العربي مع الهزيمة الجديدة متجاوزاً نكبة 1948. وما إن انطلقت "الثورة الفلسطينية" بعد تولي الفلسطينيين زمام الأمور في منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) في عام 1969، حتى اختفى الانشغال الفكري بنكبة 1948، حتى ولو كان باعتبارها جزءاً من الهزيمة الجديدة، من أدبيات فترة ما بعد حرب 1967. تركزت كل الأنظار وقتها على الثورة الفلسطينية، على المشهد الذي يتحرك بحيوية ويحدد الطرق التي ستؤدي لتحرير فلسطين. في النهاية، فإن حل موضوع النكبة عن طريق تحرير فلسطين التاريخية اتخذ نذاك مكاناً ثانوياً، حيث كان الفدائيون يركزون جهودهم على تغيير الواقع الذي أفرزته المكاسب الإسرائيلية عام 1967.
إن "عودة" مفهوم النكبة للظهور مرة أخرى في الثمانينات كمفهوم فلسطيني أكثر منه كنكبة عربية، جعل النكبة تأخذ مساراً أكثر راديكالية في الشكل والمضمون، وهو المفهوم الذي نراه في وقتنا الحالي. العودة للظهور هذه أصحت ممكنة بفضل الاهتمام المتجدد بالماضي الفلسطيني. وقد حدث هذا في سياق نهاية زمن منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وطردها إلى تونس. كما أنها أصبحت ممكنة كنتيجة لمحاولات الفلسطينيين لانعاش ذكرياتهم حول قراهم، ومدنهم وطرق معيشتهم في فلسطين والتي دمرتها النكبة، على خلفية لاشرعية الحكومات الاسرائيلية، إضافة إلى تعاظم الاهتمام الشعبي والسياسي والأكاديمي بهذه الذاكرة في ضوء انهيار الإتحاد السوفيتي السابق.
هذه العودة إلى الماضي والذكريات اكتسبت زخماً أكبر بعد اتفاقيات أوسلو، وفي سياق التهديدات التي تطال حق اللاجئين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم كنتيجة لتلك الاتفاقيات. وفي هذا السياق – أو اللجوء للذكريات في مواجهة تهديد الازالة السياسية- فقد قاد هذا التوجه إلى تركيز محدد على ذكريات النكبة، خصوصاً في مجتمعات اللاجئين، وجيل 1948، وهو الشاهد الوحيد المتبقي على الكارثة التي حاقت بالشعب في 1948، والتي أصبح حلها عن طريق تطبيق حق العودة مهدداً – للمرة الأولى-على يد القيادة الفلسطينية نفسها.
حدث هذا الأمر في سوريا على نطاق واسع كنتيجة لما عرف بحركة العودة. هذه الحركة ظهرت كرد على اتفاقيات أوسلو، وكمحاولة لإضعاف أجندة منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية التي خلقتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً فيما يتعلق بالتمثيل الشرعي للاجئين، وإمكانية أن تقوم المنظمة/السلطة بلتراجع عن حق العودة في المفاوضات. على المستوى المحلي، بدأ الناشطون بحشد الذكريات المرتبطة بفلسطين التاريخية والنكبة كمصادر لحركة جماعية. ومن خلال هذا الحشد الخاص بالذكريات كمصادر – ما فعله الناشطون حقيقة هو أنهم أفسحوا المجال لظهور حوارات "الذاكرة كضمان للعودة" في مجتمعاتهم.
***
وعلى خلفية المضامين المتعددة والمتغيرة للنكبة، فإن السؤال هو كيف يمكن لأفراد المجتمع أن يختاروا أن "يتذكروا" أو حتى أن "ينسوا" هذه الحادثة التي حولتهم وعوائلهم إلى لاجئين من الجيل الثالث أو الرابع في ضوء المعاني التي أصبحت النكبة تتضمنها، وخصوصا فيما بعد أوسلو؟ وما الذي يمكن لهذا أن يخبرنا عن معنى النكبة اليوم؟ إحدى الطرق الممكنة للتعامل مع هذا السؤال هو عن طريق استقصاء ماهية الأشياء من نكبة 1948 التي اختار من تمت مقابلتهم من جيل النكبة الذي يختفي سريعاً أن "يتذكرها" "ينساها" وكيف؟
أحدد موقع ذكريات هذا الجيل في مكان بين دورهم المتوقع في حوارات ذاكرة النكبة الجديدة، وتأثيرات تلك الحوارات فيما يخص الذكريات الخاصة لكل منهم، إضافة إلى المناسبات العائلية "الاعتيادية"، تلك التي يعود فيها الأجداد إلى البداية عند النهاية. وفي مقابل هذا، فإن إحدى ذكريات النكبة، مثل مذبحة كفر عنان، يمكن لها أن توفر مدخلاً إلى معنى آخر محتملاً للنكبة اليوم. هذا المعنى متجذر في كل من ذاكرة أولئك الذين شهدوا الموت والدمار عام 1948، والذين يحاولون أن يتذكروا بعد ستة عقود حتى يضمنوا حلا للنكبة وللعودة المستقبلية.
استقيت أول معلوماتي عن مذبحة كفر عنان خلال مقابلة مع المرحوم الحاج أبو خليل. كان عمه قد سمع أخباراً عن محاصرة القرية في ياقوق، القريبة من طبريا، واتجه إلى هناك حيث كان لهم أقرباء يعيشون في تلك القرية التي أصبحت محتلة. وحين وصل عمه، شاهد من مسافة آمنة كيف تم اختيار أربعة عشر رجلا ممن استسلموا ليتم إعدامهم على يد فرقة إعدام صهيونية من أربعة رجال. بعد أن سمعت بمصير ابنها،عادت إحدى أمهات الضحايا إلى موقع المذبحة بعد ستة أيام وحملت جثة ابنها على حمار وأخذته معها عائدة إلى الجولان السورية. ورغم أنه كان مصاباً بما يقرب من خمسين طلقة، فقد أخبرني الحاج أن الرجل عاش ليصبح الناجي الوحيد من المذبحة. نجا الرجل، وتعافى وتزوج ورزق بأولاد في مخيم خان الشيخ، الذي يقع على بعد 30 كيلومتراً جنوب غرب دمشق على الطريق إلى الجولان المحتلة وقريباً من كفر عنان، ثم مات لاحقا دون أن يعود إليها.
تحدثت فيما بعد أم عبد العزيز، والتي كانت طفلة حين هربت من صفد مع عائلتها بعد الهجوم الصهيوني على قريتها، وقصت نفس القصة عن رجل من عشيرة المواسي من كفر عنان. قالت إنه نجا من الموت رغم أن جسده كان مثقبا بالرصاص لأن والدته جاءت لتحمله على ظهر حمار حيث عادت إليه بعد رحلة دامت ستة أيام. علمت أم عبد العزيز بنجاة الرجل لأنهم أصبحوا جيراناً في جرمايا، وهي قرية في الجولان السوري حيث أقامت عائلتها كلاجئين إلى أن احتلتها اسرائيل وقامت بتدميرها وتهجير سكانها في عام 1967. وفيما بعد، قص أبو عمار، والذي هرب من نصر الدين في طبرية إلى هضبة الجولان السورية وهو طفل مع عائلته بعد الهجوم الصهيوني على قريته ووقوع مجزرة أخرى هناك، نفس هذه القصة. وقد ركز على نفس النقاط، أي النجاة المعجزة، والجروح المتعددة، وإصرار الأم على إعادة إبنها إلى الجولان.
إن "التطابق" الداخلي والخارجي في هذه "القصة داخل القصة"- إذا صح التعبير- مبهر، وبشكل خاص فيما يتعلق بالنقاط المثيرة: الطلقات العديدة، الطلقة في الفم، عودة الأم- وكلها تم تذكرها وروايتها من قبل أشخاص تمت مقابلتهم وجاءوا من مناطق قريبة في فلسطين التاريخية. كل هؤلاء ذهبوا كلاجئين في الجولان السوري، وكانوا في وقت المقابلة يعيشون في المخيمات الفلسطينية في داخل أو قرب دمشق.
عندما نقرأ قصة النكبة هذه التي ترويها الذاكرة في سياق "موت المجتمعات الفلسطينية في الجليل" والتي صنعتها أحداث 1948، يمكن لنا أن نقول إن هذا "التطابق" المبهر لا يحتوي على فهم واحد محدد ومطلق للنكبة، ولكن من الممكن جدا أن أفراد هذا الجيل قد يشكلون "مجتمعات الذاكرة" لروبرت بيلا وزملائه، و"مجتمعات الضياع" لجوديث بتلر. هذه إمكانية يمكن أن نقرأها في هذه القصص التي تشاركنا بها ذاكرة عام 1948، وكما هي مروية من قبل فضاءات وأزمنة تم انتزاعها من جذورها كما وصفت سابقاً.
وفي حين أن التناسقية الرائعة في الذاكرة المروية يمكن أن تضعف من "قيمة الحقيقة" فيما يخص التاريخ الوضعي، وبالتأكيد في الحاجة للنكبة كتاريخ مضاد للمشروع المستمر في الاستيطان الصهيوني والإزالة، فإنها في الوقت نفسه لا تضعف قيمة الحقيقة فيها فيما يخص وصف التفاصيل لفداحة كارثة عايشها أولئك الذين لا زالوا أحياء رغم الافتقار المستمر إلى الاعتراف بهذا المعنى وتداركه. إن مشاهدة المجزرة، والنجاة المعجزة للرجل، والبطولة الضمنية للأم في هذه القصة من الذاكرة تعبر كذلك عن التدمير المتوحش والقتل الذي شهدته النكبة، وأن النجاة الوحيدة الممكنة كانت عبر الحدود التي رسمت خلال 1948، ودور المرأة الرئيسي في إعادة تجذير العوائل التي تم اقتلاعها وتشتيتها في مجتمعات في المنافي. أنا أجادل هنا أن هناك معنى آخر للنكبة اليوم، معنى ساكن في مجتمعات حية، وهو الذي يعطيها صفة الحياة.
***
في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2012، وفي ظل وصول الحرب بشكلها الواسع إلى مخيم اليرموك، وبعد الهجرة الجماعية لأغلب سكانه، انفجرت سيارة مفخخة في ساحة الريجة في المخيم. ويوضح هذا الفيديو المنتشر عن الوضع بعد التفجير مقدار الدمار في الساحة والمنطقة المحيطة بها. يخبرنا صوت مصور الفيديو، والذي لا يمكننا رؤيته، أن الرجال الذين ينتمون إلى كتيبتين منفصلتين مما يسمى "الجيش السوري الحر" شاهدتا قائد سيارة مشبوهة يترك سيارته، وحين تمت مواجهته واعترف بما سيحدث تم إخلاء الساحة. ورغم أنه لم تكن هناك إصابات بشرية أو وفيات فقد تم تسجيل حجم الدمار فالفيديو إضافة إلى الصور التي وضعت على مجموعة اليرموك في الفيسبوك (مخيم اليرموك نيوز)، وهي صفحة يتم تحديثها بشكل دائم بأخبار المخيم. أظهرت إحدى الصور الساحة وهي مدمرة بشكل كبير، إضافة إلى منزل عائلة (الصمادي) الذي يواجه قسم منه الساحة بشكل مباشر والذي أصيب بأضرار كبيرة.
بعد بضعة أيام، انتشرت صورة أخرى للساحة المدمرة على صفحة أخبار اليرموك . هذه المرة، كانت الصورة صورة الحاج أبو سميح، الابن الأكبر لعائلة الصمادي واقفاً خارج منزل العائلة نصف المدمر متكئاً على عصاه، وينظر مباشرة نحو الكامرة محاطاً بأنقاض ساحة الرجى. أثناء مقابلتي للحاج أبو سميح قبل ما يقرب من خمس سنوات، تحدث الحاج عن نكبة فلسطين. كان وقتها متطوعاً شاباً في جيش الجهاد المقدس، وهي جماعة متطوعين غير اعتياديين كانوا يعملون في فلسطين قبل دخول الجيوش العربية النظامية في مايو/أيار 1948. أصيب بطلق ناري قرب معلول ونقل إلى مستشفى في الناصرة، ومن هناك إلى مستشفى في بيروت، وأخيراً إلى مستشفى في دمشق بسبب تكدس الجرحى. حين وصل إلى الحدود السورية، صرف آخر قرشين في جيبه على شراء جريدة. التم الشمل مع عائلته التي كانت مشتتة بين فلسطين ولبنان وسوريا أخيراً، وبقي في مسجد يؤوي اللاجئين في دمشق إلى أن انتقل إلى مخيم اليرموك في الخمسينات. في اليرموك، بدأ في إعادة بناء حياته من الصفر واستغرقه زهاء عشرين عاماً ،كما أخبرني، ليتخلص من الفقر الذي عانى منه هو وأسرته كلاجئين.
بالنظر إلى تاريخ الحاج أبو سميح وأهميته بالنسبة لمجتمعه، فقد كانت الصورة الثانية له مع نصف منزل العائلة المدمر المواجه لساحة الريجة يحمل التعليق التالي:
في مخيم اليرموك..شيخ لا زال مرابطاً في منزله- في شارعه- في مخيمه- دمّر الانفجار أجزاءً من منزله ومنطقته وساحته لكنه رفض الخروج من منزله. الحاج أبو سميح صمادي..عاصر نكبة فلسطين ليرفض نكبة أخرى تتجلى بخروجه من المخيم.
وهكذا، وفي خلال خمس سنوات وعلى خلفية الحرب في سوريا، تغيرت النكبة من الكارثة التي حاقت بالفلسطينيين في 1948، والتي شهدها الحاج سميح وبقي شاهداً عليها حتى ذكراها الستين، إلى نكبة تعبر عن نفسها بخروج الحاج من مخيم اليرموك. وفيما يبقى المعنى الرئيس للنكبة هو القضية التي لم تحل بعد للكارثة الفلسطينية السابقة والمستمرة، فإن معنى النكبة تغير مرة أخرى، ويتم الحديث عنه من زاوية ارتباط الفلسطينيين بمنازلهم ( ومخيماتهم)، حتى وإن كانت في سوريا. ونتيجة لهذا، فإن الحرب لا تغير البلد بكامله ومعه مجتمع اللاجئين الفلسطينيين فحسب، ولكنها تستمر أيضاً في تغيير معاني ودلالات نكبة 1948.
[ترجمه من الإنجليزية إلى العربية علي أديب]
*هذا المقال هو نسخة مختصرة من ورقة بحث قدمت في ورشة عمل "ذكريات فلسطين: نكبة 1948" والتي عقدت في معهد البحث الثقافي في برلين، ألمانيا في مارس/آذار 2013.